الجمعة، 26 نوفمبر 2010

الفنان والمثقف: الفن ؟

على مدى السنين .. أبدعت الأمم تصوير تاريخها, وروايته .. بطرقها الخاصة, استطاعت بكل ما أوتي لها من ملكة إبداعية ايصال مشاعرها عبر فنها. وكل ما استطاع أن يملكه المبدع منذ بداية ازدهار المنح الإلهية فيه أن يصف كل شيء كـ عملٍ فني .. لكني أكيد أنك إن سألت ذاك الفنان عن فنه .. ما هو ؟ .. سيجاوبك بالصمت أو بفنٍ آخر.

واجتهد علماء الجمال والفلاسفة في تفسير الفن كـ تعريفٍ وافٍ جامع متكامل .. لكنهم لم ينجحوا إلى الوصول لما صبو إليه. وذلك حدى بهم إلى جزرٍ متفرقة مختلفة الطباع والمناخ لتعريف هذا الإلهام .. الفن.

وكما بدأت بحثي عن علاقة الثقافة والفن .. فـ وجودي بين تلك الجزر سيساعدني في فهم وإيجاد الصورة التي قد تعطيني الفكرة من الفن.

***

هل يعرف الفن أصلا ؟

كانت المشكلة عند الفلاسفة هي الوصول إلى تعريفٍ يجمع كل ألوان الفنون تحت سقفه.

انقسم الفلاسفة في هذه النقطة التي لن أطيل فيها إلى فريقين

  • فريقٌ رأى أن الفن لا يعرف أصلاً لسبب مهم
- التشابه العائلي .. قصة التشابه العائلي هي : أن والدك قد يكون شبيهًا بعمتك, وأنت تكون شبيهًا بوالدك وأخاك وأختك أيضًا .. لكنك رغم ذلك لا تشبه عمتك.

وهي فكرة أن الفن قد يكون بينه تداخل متشابه بين تلك الألوان الفنية لكنه لا يملك ملمحًا ملحوظًا يعرف الألوان جميعًا.

- وقد انتقد فريق التشابه العائلي بفكرة أن هناك تشابهًا بين أفراد العائلة وهي الروابط الجينية .. مما يجعل أكبر الأسباب التي تنقض هذا الرأي هي الوصل إلى تعريفٍ للفن.

  • فريقٌ رأى أن الفن يعرف .. وانقسم إلى ثلاث أقسام:
  1. القالب الدلالي : يرى أصحاب هذا الرأي أن الرابط المشترك بين ألوان الفنون هو أنها تستطيع التأثير في المتلقي.
    وهذه الألوان الفنية لديها رابط مشترك بينها وهو ( القالب الدلالي ) نستطيع أن نسيمه ( النمط أو style )

    - تعريف القالب الدلالي: هو عبارة عن علاقة معينة بين الأجزاء أو الملامح المميزة لبنية عمل فني, وليس موضوعه. " المصطلح ابتكره كليف بيل . 1964-1881 "

    والفكرة هنا أن مناصر هذا التعريف يرى في لوحة معينة تصور مثلاً زوجًا باليًا من الأحذية أن الفكرة هي الجمع بين الألوان وتدرجاتها والناقد الحساس هو الذي يشعر بذلك. فـ أولاً تفهم العمل الفني ( اللوحة ) ثم يؤثر بك أو تحسه ثانيًا.
    وطبعًا ترى الفكرة أن الفن قابل للتقيم, وذلك يجعل من تصنيف العمل الفني ليس مجرد فرزٍ بل هو حفظٌ للقيمة الخاصة بذلك العمل.

    وكانت المشكلة هنا هي أن تعريف القالب الدلالي ليس تعريفًا مكتملاً فـ هو تعريفٌ دوّارٌ على نفسه حيث أن الناقد الحساس هو الذي يستطيع أن يشعر بهذا العمل الفني .. والعمل الفني هو الذي يؤثر بالناقد الحساس, لكن إن جاء لك ناقدٌ أو متذوق ورأى عملاً فنيًا
    وقال: فهمت عملك لكنه لم يؤثر بي.
    لـ اعتبره التعريف ناقدًا غير حساس .. وهذا غير مقبول لأنك أصلاً لا تستطيع تعريف الفن بـ الإحساس العاطفي الجمالي مع حضور القالب الدلالي !
    والنقطة الأخرى أن التعريف يرى أن أي الألوان الفنية قد تولد عاطفةً جمالية دون ترك أي مجال للجدل في هذا الخصوص.

  2. المثالية: ترى المهمة الفعلية للفن ليست مهمة ماديةً, بل هي فكرة أو عاطفة تختمر في عقل الفنان. ويتم إضفاء بعد تعبيري خيالي مادي على تلك الفكرة, ثم يتم تنقيحها عبر وسيط فني معين, إلا أن العمل الفني ذاته يبقى في عقل الفنان ( ونحن لا نرى إلا نتائج هذا الفن ). "ر.ج.كولينجوود 1889- 1943 "

    هنا يجعل التعريف فرقًا بين الفن والصنعة
    الفن: نتاج التعامل مع وسيط فني معين
    الصنعة: نتاج غرض معين .. وتوجه مخطط له

    وهنا فإن الفرق بين شخص يصنع طاولة ليجلس عليها .. وشخص آخر يصنع طاولةً لأن شكلاً للطاولة اختمر في عقله فـ أراد أن يصنعه؛ هو أن الأول مجرد حرفي صاب صنعة .. والآخر فنان.

    وهذا الفن يعتبر من الفن الترفيهي : الفن الذي وجد للتسلية والتلاعب بعواطف معينة؛ هو مفوم دخيل على الفن وليس فنًا, فالتعامل مع الفن ليس للتسلية بل للتعامل معه بحد ذاته.

    وكانت المشكلة في هذا التعريف : أن غرابته تفرض عليك تتبع آثار العمل الفني وهذه الفكرة قد لا تستطيع استيعابها في معرض للوحات أو فيلم أو عرض مسرحي مثلاً, لكنك تفهمها وتبدو لك منطقية في التعامل مع المقطوعات الموسيقية والأعمال الأدبية.
    والمشكلة الأخرى كانت في أن التعريف ضيق النطاق فـ أعمال البورتريه مثلاً خارجًا من تصنيف الفن ( يعني الموناليزا مهي فن مثلاً لأنو لها غرض معين .. ) والهندسة المعمارة خارجة من هذا التصنيف .. وأي عمل فني يحتمل غرضًا معينًا.

  3. المؤسساتية : متميزة عن هذه التعاريف أنها تستطيع أن تجمع بين جميع الأشكال الفنية : قصص, فن تشكيلي, والرقص, مع القليل من الموسيقى وتجمعها لتدرجها تحت مسمى العمل الفني.
    وما يميزها هما عنصران : - أن جميع الأعمال الفنية هي نتاج نشاط حرفي.
    - وأنها تندرج تحت العمل الفني با اعتبار أصحاب الوسط الفني لهذا العمل فنًا.
    فـ بإمكانك بهذا التعريف أن تأخذ زوجًا من الأحذية وتضعه في معرضٍ فني فـ يسمى الزوج بذلك عملاً فنيًا. أو أن يقول لك أحد المحسوبين على الوسط أن هذا العمل يعتبر عملاً فنيًا .. والطرفة هنا أننا أحيانًا نقول عند الانتهاء من طبق معين من الطعام أن الطعام كان تحفةً فنيةً ونشكر الطاهية .. فـ بهذه النظرية نستطيع تصنيف طبق الطعام أنه ( تحفةٌ فنية حرفيًا ).

    والمشكلة في هذه النظرية ( التعريف ) : - أنها لا تميز بين الرديء والجيد.
    - والمشكلة الأخرى أنها نظرية دورانية على نفسها, فـ بفرضنا أن تصنيف العمل كـ عملٍ فنيٍّ مرهونٌ بآراء أصحاب الوسط الفني, فإن الشخص لا يجب أن يكون عند تصنيفه للعمل الفني عاملاً في الوسط أصلاً.. وهذه المشكلة فمن هم أصحاب الوسط الفني أو الفنانون ؟ .. وكيف للفنان أن يصنف عمله كـ عمل فنيٍ, أو للعمل الفني أن يصنف صاحبه كـ عملٍ فني.

****

وهذه أخيرًا التعاريف التي استسيقتها من كتاب : ( الفلسفة: الأسس لـ نيغل واربورتون ).

وما اتضح لي أن المسألة قد وضعت في الخلاط منذ زمن .. والمحاولات الجادة للتعريف قد تبقى محاولات لم تنجح في تفسير هذه المفاهيم لي.
وكيف نراها من منظورنا : المثقف والفنان ..

ولكنني إن أردت أن أكون واقعيًا فـ التعامل مع الفن هو خليطٌ من هذه التعاريف بحسب المكان والزمان والحدث, والشعارات التي يرفعها الكثير والمتعلقة بالفن قد لا تكون دقيقةً ويبقى عند بعض المثقفين أن الفن هو ما يساعدهم على إيصال أفكارهم .. أو حل المعضلات التي تبنوا حلها.

ويبقى البحث ساريًا .. والعمل جارٍ على الوصول إلى معانٍ تريحنا في التعامل مع هذه المقاهيم.